أعظم شخصية في التاريخ
إن أعظم شخصية في تاريخ البشرية كلها، لا بالنسبة للعظماء
من البشر فقط، بل بالنسبة للأنبياء والرسل كذلك، بما فيهم الرسل أولوا العزم هي
شخصية الرسول 0
فإذا قسنا بمقاييس العظماء من البشر، فإننا إذا وجدنا قائداً
سياسياً في أمة نذر نفسه للقيادة السياسية وانقطع لها، فوجد أمته في شتات، لا يربط
بينها رباط، ولا تجتمع على كلمة ولا هدف، فاستطاع من خلال قيادته الحكيمة، وتأثير
شخصيته أن يجمع الأمة من شتاتها، ويوجد لها الرباط الذي يجعل منها أمة متماسكة،ووحد
كلمتها، ورسم لها هدفاً تتجمع حوله فتنسى خلافاتها وتتآلف قلوبها.. ثم برز إلى
المعترك الدولي بهذه الأمة بعد توحيدها، فأحلها مكاناً مرموقاً بين دول العالم
وشعوبه، وجعل لها احتراماً وتقديراً بينهم00 فبماذا نسمى ذلك القائد السياسي في
لغتنا، وكيف نصفه؟ ألا نقول : إنه رجل عظيم؟ وهو قد انقطع لهذه المهمة وحدها دون
سواها؟
فكيف إذا كان هذا جانباً واحداً من جوانب متعددة تشملها شخصية الرسول
الأعظم ، وكيف إذا كان وهو لم ينقطع لهذه المهمة وحدها، قد بذل فيها أي سياسي في
التاريخ ممن تخصصوا في القيادة السياسة فسحب؟
وإذا وجدنا مصلحاً اجتماعياً وجد
المظالم والانحرافات الاجتماعية متفشية فى مجتمعه، الأنانية هي رائد الأفراد،
والأثرة هي رائد الجماعات. القوى يظلم الضعيف، والغنى يأكل الفقير، والمجتمع أفراد
وجماعات متفرقة، تتناحر فيما بينها على السلطة أو المال أو الجاه؛ نهازون للفرص
كلهم، لا يرعى أحدهم لأخيه حقا ولا يرقب فيه إلا ولا ذمة.. فنذر نفسه لإقامة العدل
الاجتماعى وإزالة الانحرافات من مجتمعه، وأوجد التوازن المنشود بين الفرد والمجتمع،
وبين الحاكم والمحكوم، وجعل أغنياء الأمة يتعاطفون مع فقرائها ويشركونهم فى جانب من
أموالهم، فيعيش المجتمع كله كأنه أسرة واحدة كبيرة، متكافلة متعاونة متحابة. فكيف
نسمى ذلك المصلح فى لغتنا، وكيف نصفه؟ ألا نقول : إنه رجل عظيم؟! فكيف إذا كان هذا
جانباً واحداً من جوانب شخصية الرسول وحياته ، وكيف إذا كان في هذا الجانب قد بذل
المتخصصين، الذين انقطعوا لهذا الجانب وحده وتخصصوا فيه؟!
وإذا وجدنا مصلحاً
أخلاقياً، رأى الفساد الخلقي منتشراً في مجتمعه: الكذب والنفاق، والغش والخيانة،
وأكل أموال الناس بالباطل، والخمر، والزنا، والميسر، والسلب والنهب، والغصب.. لا
يأمن أحدهم على نفسه حتى يكون سلاحه في يده، ولا يأخذ حقه إلا بقوة عضلاته، فإذا
كان صاحب الحق ضعيفاً أكل كما تأكل الذئاب الفريسة، فإن كان يتيماً أو امرأة فلا
يتحرك لنجدته ضمير 00 رأى ذلك فنذر نفسه لإصلاح الأخلاق في مجتمعه، فاستطاع بصبره
وجهاده أن يضع لأمته دستوراً أخلاقياً تتعامل به فيما بينها، يرعاه القوى والضعيف،
فقل الكذب أو انتهى، وقضى على الخمر والزنا والميسر، وصار صاحب الحق آمناً على حقه
ولو كان ضعيفاً أو يتيماً أو امرأة، وصار وازع الضمير هو الذي يحكم العلاقات بين
الناس 00 ألا نقول لمن توصل إلى ذلك : إنه رجل عظيم 00 ؟
فكيف إذا كان هذا
جانباً واحداً من جوانب تلك الشخصية الفذة، وكان أثر الرسول فيه أكبر من أثر أي
مصلح في التاريخ نذر نفسه لهذه المهمة فحسب؟
وإذا وجدنا مربياً نذر نفسه
للتربية، فاستطاع أن يخرج جيلاً من الأفذاذ، كل واحد منهم قائد في ميدانه، وقدوة في
سلوكه وأخلاقه، ومتانة شخصيته وتماسكها بحيث لا تلعب بها الأهواء ولا تهزها
الأعاصير 00 ثابت كالطود، ذو شخصية إيجابية وفعالة في عالم الواقع، يتحرك فيحرك
الجموع من حوله 00 كيف نسميه؟ ألا يستحق منا – بجدارة – أن نقول : إنه مرب عظيم؟!
فكيف إذا كان هذا جانباً واحداً من جوانب متعددة، وكان الرسول قد بذل فيه
أعظم عظماء المربين في التاريخ، بالجيل الذي رباه على عينه فكانت منه قيادات في كل
ميدان على مستوى القمة من البشرية؟!0
وإذا وجدنا قائدا عسكرياً انقطع لمهمته
فحسب، فربى جيشاً من الأبطال جنوداً وقادة، فعودهم الصبر على المكاره، والثبات عند
الشدة، والإقدام عند الخطر، وخاض بهم المعارك فانتصر بهم حتى عودهم النصر، يحبون
قائدهم، ويأتمرون بأمره، ويطيعون تعليماته، بل يتسابقون إلى مكان الخطر، يطلبون
الشهادة ويسعون إليها سعياً، فتكتب لهم إحدى الحسنيين: الشهادة أو النصر 00 ألا
نقول : إنه قائد عظيم؟
فإذا كان هذا القائد العسكري قد وضع نصب عينيه وهو يربى
جيشه ألا يكونوا أبطال قتال فحسب، بل يكونوا كذلك مثلاً أخلاقية حتى وهم يقاتلون،
لا ينسيهم هول الحرب أخلاقهم، ولا تخرجهم المكاره عن طورهم، بل يلتزمون بالأخلاق في
المعمعة وبعد المعمعة، في تعاملهم مع أعدائهم وأصدقائهم على السواء؟ ألا نقول مرة
أخرى: إنه قائد عظيم ؟
ثم إذا كان هذا القائد قد ربى جنوده لا على الأخلاق
الفردية فحسب، بل على أن لهم مثلاً أعلى وقيماً يقاتلون في سبيلها. فهم لا يقاتلون
من أجل الغلبة فحسب، ولا من أجل توسيع الرقعة وتشييد السلطة، إنما يقاتلون لمثل
أعلى يحرصون عليه أشد من حرصهم على نتيجة المعركة ذاتها، ويتحرونه في كل خطوة،
ويقيسون إليه كل حركة00 فهل يكفى أن نقول فقط : إنه قائد عظيم؟!
فكيف إذا كان
الرسول قد بذل في هذا الجانب أي قائد عسكري في تاريخ البشرية، وهو جانب واحد من
جوانب متعددة في شخصه الكبير ؟!
ولو أن إنساناً نذر نفسه للعبادة، حتى شفت روحه
وصفت، لا ينسى ربه لحظة، ولا ينقطع ما بينه وبينه، بل هو موصول القلب بالله أبداً ،
في صلاته وفى عمله، فيما بينه وبين نفسه، وفيما بينه وبين الناس، فإذا هو مع الناس
لطيف ودود، وإذا هو في عمله متقن مخلص، وإذا تقوى الله وخشيته تسيطر على تصرفاته
كلها وتحكمها0
ثم لو أن هذا الإنسان قد استطاع أن يجمع حوله جماعة من العباد،
يربيهم على عمق الصلة بالله، وعلى الذكر الموصول لله فإذا هم يذكرون الله قياماً
وقعوداً وعلى جنوبهم، وإذا الإيمان بالله هو المحرك لأعمالهم وأفكارهم ومشاعرهم،
وإذا تقوى الله هي المقدمة في حسهم على كل متاع الأرض وكل مغريات الأرض .. ألا نقول
عنه: إنه روح عظيمة في ذات نفسه، وإنسان عظيم بالنظر إلى ثمار غرسه من الصحاب
0
هذه وغيرها من جوانب من شخصية الرسول ، بذل في كل جانب منها من تخصصوا لها
ووهبوا أنفسهم لها على حدتها.. فكيف نسمى من جمع في شخصه الكريم مثل هذه صفات وكل
واحد من بينها عظيم؟!
على أن عظمة الرسول لا تكمن في اجتماع هذه المزايه
المتعددة في شخصه الكريم فحسب.. بل هناك درجة أعلى من العظمة، هي أن هذه الجوانب
كلها لم يشغله واحد فيها عن الآخر! فعمل القائد السياسي لم يشغله عن عمل القائد
الحربي، ولا عن عمل المصلح الاجتماعي، ولا المصلح الأخلاقي، ولا عن عمل المربى، ولا
عمل العابد 000 بل لم يشغله ذلك كله عن أسرته وزوجاته وبناته، فكان نعم الزوج، ونعم
الأب، ولو أن إنساناً تفرغ فقط لمطالب أسرة في حجم أسرة الرسول فعدل فيها عدله
وأعطاها ما أعطى الرسول أسرته من الرعاية والحب، ألا نقول : إنه إنسان عظيم! فكيف
إذا كانت هذه الأمور كلها لا يلهيه جانب منها عن الجوانب الأخرى، وهى تنوء
بالمختصين فيها، المنقطعين عن الجوانب الأخرى؟
كان تعبد حتى تتورم قدماه ، وحتى
تشفق عليه عائشة رضي الله عنها من الجهد، فتقول له : هون على نفسك فقد غفر لك الله
من ذنبك ما تقدم وما تأخر، فيقول لها : ((أفلا أكون عبداً شكوراً؟!))0
ومع هذه
العبادة التي يعجز عنها المنقطعون لها وحدها، فهل طغى هذا التعبد على مهامه الأخرى
، فلم يعط القيادة السياسية حقها، أو التربية الخلقية ، أو تربية المقاتلين في
سبيل الله، أو تربية أولئك الأفذاذ الذين كانوا قادة التاريخ في كل ميدان، كأبي بكر
وعمر وعثمان وعلى وخالد وعكرمة، وأسماء وسمية.. ومئات غيرهم من الصحابة رضوان الله
عليهم ؟! كلا! وإنها لعظمات بعضها فوق بعض، تجتمع كلها في شخصه الكريم..
فإذا
قسنا هذه الشخصية الفذة بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، فنحن على ذات المستوى
من العظمات0 إن شخصية الرسول وحياته وسيرته قد جمعت ما تفرق في الأنبياء الآخرين
مما تميزوا به 0
فإذا كانت حياة نوح عليه السلام قد تميزت بطول صبره على صد
قومه مع عدم الانقطاع عن دعوتهم، وإذا كانت حياة إبراهيم عليه السلام قد تميزت
بحلمه وأناته، والرفق في توصيل الحق إليهم، مع الامتثال الكامل لأمر الله والإسراع
إلى طاعته، وإذا كانت حياة موسى عليه السلام قد تميزت بالقيادة الحكيمة التي ارتبط
بها بنو إسرائيل حتى خرجوا من الاستضعاف والذل إلى الحرية والكرامة، وتكونت منهم
أمة تحكم بشريعة الله، وإذا كانت حياة عيسى عليه السلام قد تميزت بجانبها الروحاني
الشفيف اللطيف، في مواجهة المادية الطاغية التي كانت تسود وجه الأرض، وتربية مجموعة
من التلاميذ (هم الحواريون) على درجة عالية من الخلق والروحانية والطاعة لتعاليم
رسولهم.. فإن حياة الرسول قد استوعبت ذلك كله في طياتها، وكان أثره فى كل جانب من
هذه الجوانب أعظم من كل من سبقوه من الرسل الكرام. ( )
وذلك كله من فضل الله
عليه وهو يعده للرسالة الخاتمة : ((هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على
الدين كله)) 0( ) ((وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكون تعلم وكان فضل
الله عليك عظيماً))